البحث او المقال
مقال بعنوان
( مضامين خطبة السيدة الزهراء )
بقلم الكاتب عبدالله عبدالحسين الميالي / النجف الأشرف
إني لأستصغر قدري وأنا أحاول طرق باب ( فاطمة الزهراء ) .. هذا الباب الذي كان يقف عنده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مستأذناً بالدخول !! وأنَّ القلم ليستنشق أريج العطر الفاطمي المقدس وهو يُدوّن في قرطاسه ما يجود به عن هذا الملاك الرباني , والكيان الملائكي , والأنموذج الأوحد لنساء العالم قاطبة , ذلك الجبل الأشم والطود الشامخ من الكمالات الإنسانية والعلوم اللدنية , المدرسة التي تربّى في حِجرها الأئمة العظماء الذين ملأت علومهم الخافِقَين , والحُجة الكبرى التي قال عنها حفيدها الإمام الحسن العسكري : ( نحن حُجج الله على خلقه , وجدتنا فاطمة حُجة الله علينا ) وكيف لا تكون كذلك ؟ وهي التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصطفي لها من بنات أفكاره في تعليمها ما ترقى به محلها , ويجتبي لها طرائف التهذيب لكمال استقامتها , فكانت كما أراد لها مثالاً يُحتذى , وسيرة تُقتدى , ومناراً يُستضاء به , حتى أضحت ( عليها السلام ) شيئاً فريداً في دنيا المرأة , بل في دنيا الإنسانية كلها , ينحد عنها سيل الهدى والرشاد , ولا يرقى إليها طائر الطموح والطلب , ولم لا وقد نشأت في الحضن الطهور , ورضعت من أثداء النور , فكانت بحق ذلك السهم الذي أطلقته اليد الإلهية , ونفحة العطر التي فاحت من عبقات الرسالة المحمدية , وشعاع الشمس الذي أضاء وجه الأمة ..
خجلاً من نور بهجتها تتوارى الشمسُ في الأفقِ
وحــياءً من شمـائلهــا يستظل الغصن في الورقِ
وإذا كانت ثمة شخصيات تسمو وترقى قبل أن تُولد لتكون شموساً متوقدة تنير دروب الأجيال عبر العصور , فلا شكّ أنّ السيدة فاطمة الزهراء هي من أخص تلك الشخصيات , وليس بجديدٍ أن نقول أنها ( سلام الله عليها ) قد حازت على كمال العقل , وطيب الصفاء , وكرم المُحتد , ونشأت نشأة إيمان ويقين ووفاء وإخلاص وزهد , وقد حذت حذو أبيها المصطفى في كل كمال واستقامة وشموخ حتى قالت عنها عائشة : ( ما رأيت أحداً من خلق الله أشبه حديثاً وكلاماً برسول الله من فاطمة , وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها مجلسه , وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده فقبلتها ) ..
عاشت ( صلوات الله عليها ) في جوٍّ شعّت عليه أنوار النبوة والرسالة والعلم والفكر والعطاء بمختلف جوانبه الإنسانية والإجتماعية , حتى غدت ركناً من أركان الرسالة , بل جسّدت الإسلام كله خَلقاً وخُلقاً وتواضعاً وتكاملاً وعزاً وشموخاً وعطاءً وثورةً , وهي التي قال عنها الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء : ( إنها صلوات الله عليها من ناسكات الأصفياء , وصفيات الأتقياء , البتول البضعة , الشبيهة بالرسول .. كانت عن الدنيا عازفة , وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة .. )
ومن عطاءات العلوم الفاطمية خطاباتها المتعددة , والتي من أبرزها ما تسمى ( بالخطبة الفدكية ) التي ألقتها في المسجد النبوي الشريف بحضور الخليفة وجمع كبير من الصحابة , بكل أنفة محمدية , وبلاغة علوية , وهي خطبة وثقتها مصادر المسلمين المختلفة , وأهمها ( السقيفة لأحمد الاجوهري المتوفى 280 هـ ) و ( الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري المتوفى 346 هـ ) و ( الشافي في الإمامة للشريف المرتضى المتوفى 436 هـ ) و ( الاحتجاج للطبرسي وهو من أعلام القرن السادس الهجري ) و ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المتوفى 655 هـ ) و ( كشف الغمة للأربلي المتوفى 692 هـ ) وغيرها من المصادر الأخرى ..
لقد مثلت الخطبة الكبرى ( الفدكية ) ما نستطيع أن نُسمّيها بأول ثورة سلمية بيضاء في التاريخ الإسلامي , قائدها السيد الزهراء , وسلاحها الخطاب القرآني والرسالي , وجنودها تلك الكلمات التي جرحت مشاعر ( الصحابة ) بالعُمق فأجهشتهم بالبكاء والنحيب !!
وعلــى ذلك الهــدير استقــامت خُطـة الـدين باتجاه هُداهـا
وستبقى الزهراء في كلِّ عصر يقتفي الثائرون نهج رؤاها
ومادام الحديث وصل بنا إلى الخطبة الفاطمية , فلابد لنا من وقفة قصيرة ( ولو خجولة !! ) مع قراءة تحليلية لمظامينها ومدلولاتها العميقة , بعد أن عُدّت كواحدة من جواهر الإرث الفكري والعلمي والثقافي والحضاري لأهل البيت الأطهار ( عليهم السلام ) لما تضمنته من مباحث عقيدية مهمة , وما حوته من علل تشريعية كثيرة , وما تميزت به من دقة البيان , وجمالية الأسلوب , وفصاحة الألفاظ , وبلاغة الخطاب , وروعة النظم , فضلاً عن أهمية موضوعها الاحتجاجي , وقيمة ما ورائها من مغازٍ وأهداف , حتى حارت بها عقول البلغاء ..
أولاً : تضمنت الخطبة افتتاحية سنتها السيدة الزهراء , دأب عليها المسلون فيما بعد فصارت افتتاحية تقليدية في خطبهم : ( الحمد لله على ما أنعم , وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدّم ... )
ثانياً : استثمرت السيدة الزهراء معارفها الكثيرة وعلومها النافذة في القرآن , وامتلاكها ناصية اللغة , في خطبتها , فقد رأت في ذلك أسلوباً مناسباً لتفجير طاقات المسلمين في مختلف المعارف الإلهية , حيث توزعت خطبتها بين الحمد والتوحيد والنبوة من جهة , واستذكار العصر الجاهلي وانجازات الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) من جهة أخرى , دون أن تهمل الحديث عن القرآن الكريم , وبيان فلسفة الإسلام وشرائعه , والالتفات إلى طريقة الحكم وطبيعتها في عهد الرسول الأكرم , كما خصّت في خطبتها هذه خطاب طائفة من الحاضرين من ( المهاجرين والأنصار ) ..
ثالثاً : اتخذت الخطبة من التاريخ منفذاً للتحول إلى سياق أدبي مقنع للمتلقين ومؤثر في تكوين طائفة من المتلقين تسترجع خزينها الفكري وتتشكل في انساق تتحق فيه استجابة القارئ ..
رابعاً : كانت المسحة البلاغية للخطبة واضحة جداً حتى عبَّر عنها أحد الباحثين بقوله ( إنها بحق ملخص نهج البلاغة ) حيث تضمنت الكثير من المضامين العميقة في مجالات الفلسفة والفكر والعقائد والإلهيات والسياسة والأخلاق والأحكام والفقه والتعليم وغير ذلك ..
خامساً : أبرزت الخطبة الفدكية الجانب الأخلاقي المتميز الذي اتصفت به مدرسة أهل البيت على مدى العصور والأجيال , وقد أدى ذلك إلى ما يسمى ( أدب الاحتجاج ) حيث كان خطابها ( عليها السلام ) خطاباً حضارياً متوازناً ومحافظاً على كل المعايير العلمية والأخلاقية والأدبية , ومتى ما كان الخطاب يحمل هذه الأدبيات فسوق يحقق وبلا ريب مشروعية وصدق القضية ..
سادساً : تضمنت الخطبة في بعض فقراتها ( النقد اللاذع والساخر ) سواء للذي اغتصب حقها أو الذين وافقوه وآزروه على ذلك , حيث استعملت السيدة الزهراء الأسلوب الاستنكاري الذي تتنوع في أساليب اللغة وصيغها الأخرى من تقريع وتوبيخ وتعجب إنكاري ..
سابعاً : أهم ما تضمنته الخطبة الفدكية الكبرى هو الدفاع عن الحق ودفع الباطل ولو بسلاح الكلمة والمحاججة والمجادلة , ولو لم تفعل السيدة الزهراء ذلك لكانت قد أعطت للخصم الشرعية في حكمه , فجاءت الخطبة الفاطمية لتصحح الخط المنحرف وتزيل غشاوة اللبس ممن توهم صواب وصدق الخصم في قراره ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة ) ..
هذا ما جاد به القلم وهو يستعرض مضامين ( الشِقشِقية الفاطمية ) ولعله قد قصّر طرفه على جوانب قليلة مخافة أن يتشعب النظر فتتيه الفِكَر ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ