البحث او المقال
الاضاءة العقائدية في الخطبة الفدكية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على الخـاتـم محمد سيد الأنبيـاء والمرسليـن وعلى آله الأطهار الميامين والصلاة والسلام على مولاتنا الزهراء سيدة نساءالعالمين.
أمّا بعد :
فـقـد تـلألأت الأنــوار القدسيــة للخطبــة الفدكـيــة الفاطميــة ، إذ كـانت تــزخـر بـالمفــاهيـم الأسلامية والتعاليم السماوية والبراهين القرآنية ، وقـولٌ كلّهُ حـقُ وصدق وحتمُ وفصلُ ، فكلمات الزهراء(عليها السلام) كانت لئالئاً تمثِّل الثوابت على مدى الأجيال والعصور ، ثبتتها اليـد الفـاطميّــة الطاهـرة أوتــاداً على أرضيــة الـواقع السيـاسـي والإجتماعـي ،الفقهـي والعقائدي ، والإقتصادي .. وبذلك نستلهم من هذه الأبعاد للخطبة الفدكية مواقف الزهراء (عليها السلام) البطوليـة في جهاد الكـلمة ، ومقـارعة الظلم والـوقـوف بـوجه الإمـام الجائــر لأنّه ( أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر) والمطالبة بحقها المغتصب ، والدفاع عن إمامة أمير المؤمنينعليه السلام)) المغصوب حقه في الخلافة الإلهية .
وإنّي لأجـد أنَّ من يقرأ متن خطبـة الصديقة الـزهراء(عليها السلام) ولم تكـن لـديـه خلفيـة ثـقـافـيـة واعيـة ، ورصيـد معـلومـاتـي كـافٍ لمجـريــات الأحـداث التـاريـخيـة قبـل فـدك وأحـداث السقيفة الظالمة وما أصدرته من قرارات مجحفة بمصادرة حقوق أهل البيت(عليهم السلام) فـي اغـتصاب الخـلافــة والإمـرة ومصادرة ممتــلكـاتهـم إلى سلسلـة المـؤامـرات والإعـتــداءات المتتــابـعــة للقضاء عليهم وتـصفــيـتهم ثـم تـصفـيـة أتـبــاعهم وأشيـاعهم ... نـعم هـذا المعـنى الحـقـيـقي الذي تـفـرزه أحـداث السقيـفـة التي أرادت أن تعـيـد الإسلام المحمدي العظيــم إلى أحضان الجاهلية ماقبل الإسلام ، وأن تهدّم الأركان القوية التي بنى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الإسلام عليها وبجهود مستميتة محمدية وعلوية .
فمن لم يفهم الأهـداف الخطيـرة لعصابـة السقيفـة ودواعش الأمس ؛ سوف لن يدرك ما تشيـر إليـه الـزهراء(عليها السلام) في خطبتها ، وسيظن أن الـزهراء متهافتـة على الحطام الـدنيـوي ، وتسعى للحصول على المنـافع الماديـة الدنيـويـة ، حـالها حـال كثيـر من النـاس اللاّهثين وراء الدنيا الدنية وزبرجها .. حاشاك ثم حاشاك سيِّدتي ..كيف وأنت سيِّدة نساء العـالميـن من الأوليـن والآخـريـن .. كيـف وأنـت أمرأة استثنـائـيــة لست كإحـدى النساء ، بــل خـلقـك الله تـعـالى لتـؤدّيـن دوراً إلهيـاً ، فـأنت حجـة الله على خـلقـه ، بــل أنـت حجـة الحجج ولولا ذلك ؛ ما علَّق الله تعالى رضاه على رضاك ولا غضبه على غضبك .. سيِّدتي أنت صاحبة القلب الَّذي ينبض بالحب بــل بـالعشق الإلهي ، فكيـف لا تتسامى روحك الطاهـرة عن علائق الماديّات ؟
وفي هـذا البحث القصيـر الّذي بـيـن أيـاديـكـم الفـاضلة .. تـنـاولت الحديث فـيـه عـن البعـد العقائـدي للخطبـة الفدكيـة ، فالصديقـة الـزهـراء( عليها السلام ) قد عرَّت القوم وكشفت عن أوراقـهـم الحقـيـقيـة وأظهـرت عـقـائـدهم الفـاسدة والّتـي لـولا فـسادهـا وبـطـلانـها وإنـحـرافـهـا ؛ مــا أقدموا ولا تجرَّأوا على ظلم الـزهراء(عليها السلام) وغصب الخلافـة الإلهيـة لأميـر المؤمنيـن (عليه السلام) والخروج على الأوامر الإلهية ، فتلك جرأة على الله تعالى وكفرٌ محض .. وهذا ما أظهرته خطبتها الشريفة عليها السلام .
والبحث يصب في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول / والحديث فيه عن البعد العقائدي لدى الفرد المؤمن .
المبحث الثاني / والحديث فيه عن ارتباط الزهراء(عليها السلام) بالأصول العقائدية في قبال الإرتباط العقائدي لخصماء الزهراء وأهل البيت(عليهم السلام) .
المبحث الثالث / الحديث فيه عن عملية التصحيح العقائدي للزهراء(عليها السلام) .. والصرخة الفاطمية .
المبحث الأول
البعد العقائدي لدى الفرد المؤمن :
مامعنى العقيدة في حياة الإنسان ؟ .. نعم العقيدة مشتقة من المصدر(عقد) الّذي يعني الإحكام والشد والربط لفكرة معينة في ذهن الإنسان وفكره .
ومايهمّنا هو الحديث عن عقيدة الفرد المؤمن ، ذكر الشيخ المسعودي(1 ) : لابد لكل فرد مؤمن من عقائـد على المستـوى النظري ومن ثم يـأتي المستـوى التطبيقي لهذه العقـائـد وهـو ما يتم بالتصديقات على المستـوى الخارجي لهذه العقائد ، لذا فالعقائد تحدّد شكل الإنسان وشاكلته كما قـال تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ( ) ، وتشكِّل هيئته الباطنيـة وحقيقتـه الواقعية ، وهذه العقائد هي الَّتي تحفِّزهُ على العمل الصالح وتحدد إتّجاهه في الحياة وعلى ضوء ذلك يأتي العمل الصالح الَّذي يبرهن على الإيمان الَّذي يعتقده الفرد المؤمن .
وعلى هذا الأساس إذا كانت العقيدة صائبة ومطابقة للواقع كانت عندئـذ طريقـة الإنسان المؤمن في الحياة طريقة صحيحة وصائبة ، أمّا إذا كانت عقيدته فاسدة باطلة ، فإنَّ ذلك سوف يـنعكـس على طبـيعــة سيـرتــه وطـريــقـة حيـاتــه في الـواقع الخارجي وسوف يـؤدّي ذلك إلى الضياع والإبتعاد عن الطريق الَّذي خطَّه الشرع المبين .
وحـيـث أنَّ فـي عـقـيـدة كـل إنسـان مـؤمن يـريـد الإجـابـة على سـؤال مــا يـخطـر بـذهنـه أن يـرجع إلى القـرآن الكـريـم أولاً بـإعتبـاره المصدر الأول للمسلمين ، ومن بعـد ذلك يـرجع إلى السنّـة الشريـفـة للرسول وأهـل بيتـه الأطهار، وحينما نستـنطق القـرآن عن المـوانع الَّتي تـقف فـي طريـق تـثـبيـت العـقـيـدة الصحيحـة فـإنّـه تـعـالى يـقـول إِن يَتَّـبِعُـونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَـا تَـهْـوَى الْأَنفُسُ ( ) ، نجد أنَّ خطأ الإنسان في آرائه وعقائده يتجلّى في :
أحدهما / إتِّباع الظن
والآخر / إتِّباع الهوى
وهنـاك أمـور أخـرى وردت في الروايـات الشريـفـة بـإعتبـارهـا مواضع ذلك الفكـر والعـقيـدة كالتعصّب والتقليد والإستبداد واللّجاجة الاّ أنَّ هذه الأمور تعود كلّها إلى الأهواء النفسية .
فالخطبة الفدكية للزهراء(عليها السلام) تُظهر لنا الجانب العقيدي لمن غصبها حقها والَّذي تـرتَّب فـساده وبــطلانــه على إتـبــاع الهـوى والإستـبـداد والتعـصّب وهـذه كـلّهـا خـطـوط تــرسم صـورة ( الجـاهـليـة ) الَّتي بـادر القـوم إلى إعادتها بعـد وفــاة النبـي( صلى الله عليـه وآلـه ) ورضـوا بحكمها .
وفي مقـابـل العقيدة الفـاسدة لغـاصبي حـقها وخلافـة الوصي (عليه السلام ) الَّذيـن رفعـوا لـواء الجاهليّة بدلاً من راية الإسلام والقرآن، نجد الزهراء (عليها السلام) تحاول جهدها أن تـرفع راية الإسلام والقرآن، وتحتج على ظلمهم وإتِّباعهم الهوى ومبادرتهم إلى الفتنة، وابتعادهم عن حكم الله ونهج المصطفى وأهل البيت (عليهم السلام) .
المبحث الثاني
إرتباط الزهراء(عليها السلام) بالأصول العقائدية.. قبال الإرتباط العقائدي لخصمائها :
إنَّ لفاطمة الـزهـراء ( عليها السلام ) وحيـــاتـها الشخصيـة والغـيـبـيـة إرتـبــاط بــأصـول الديــن الصميمي .. ومـا ورد في خطبتها كان مصداقـاً لترسيب الجانب العقـائـدي ، فقد أشارت إلى أصول الدين الآتية :
1ــــ جانب التوحيد / أشارت الزهراء(عليها السلام) إلى التوحيد بقولها :
(( وأشهد أن لا إلـه إلاّ الله وحـده لا شريـك لـه كـلمةٌ جعـل الإخلاص تـأويـلها وضمَّـن القلوب موصولها وأنار في التفكّر معقولها ))
مدى علاقة الزهراء(عليها السلام) بالتوحيد : للزهراء(عليها السلام) ارتباط وثيق بتوحيد الله ولذا فـإنَّ لمعـرفـتها ( عليها السلام ) دور كبيـر في عقيدة الفـرد المؤمن ، فـقـد جـاء في زيـارة الجامعة الكبيرة المروية بسند معتبر عن الإمام الهادي (عليه السلام) :
(( من أراد الله بدأ بكم ، ومن وحَّدهُ قبل عنكم ))( ) ومعنى ذلك : أنَّه من لم يوحِّد الله لم يـقـبـل عنكم أو بـالعكس من لم يـقـبــل عنكـم لم يُــوحِّـد الله تـعـالى، فهـو على ذلك يـكـون من المشركين؛ لأنّ معرفة الله تعالى حق المعرفة مشروطة بمعـرفـة أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن شروط معرفة أهل البيت هو القبول عنهم في كلِّ ما يقولونه من المعارف الربّانية ، فهم حجج الله على الخلق ، وكلُّ ما ثبت للأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) فهو ثابتٌ للزهراء ( عليها السلام ) فهي مشتركة معهم في العصمة ، وقـد شملتها آية التطهير إِنَّمَا يُـرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْـلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً ( ) ، وكـونها الكلمات الَّتي تـلقـاها آدم (عليه السلام ) لتـوبـتــه ، واشتـراكها في المبـاهـلـة ، واشتـراكهـا في كـونهم الشجـرة الطيّـبــة ونــزول الملائـكة عليهم ليلة القـدر، واشتـراكها معهم في بـدء خلقها قـبـل خـلق آدم وعرض ولايـتهم على الأشياء ، وأنَّها الحجة على الأئمة ، والإمام الصادق (عليه السلام) يقول :(( وهي الصدِّيقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى ))( ) وعلى هذا الأساس فإنّ كل من يقبل عنها الحق فهو من الموحدين ، وكلُّ ماصدر منها لابدّ من الإيمان به .
عـلاقـة خـصماؤهـا من التـوحيـد : لقـد علمنــا بــأن كـل مـن يـقـبــل عـنهـا الحـق فـهـو مـن الموحـديــن ، ولابـد من الإيمـان بـكـل مـا يصدر منها وإلاّ فـإن الـراد عليها كالــراد على الله ورسوله ويكون بذلك مشركاً أو منافقاً ، قال الحسين ((عليه السلام عندما خرج في واقعـة الطف حاملاً الطفـل الرضيع : (( هـل من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله ، هـل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ )) ، إذن فإن الَّذي يكون موحِّداً لابـد أن يخاف الله ويقف عند حدوده الَّتي أُمرنـا بــالـوقـوف عنـدها ، ومن ملازمـات التــوحيـد مخـافــة الله تـعـالى في أذيــة النـاس ، والـذي لا يخاف الله تعالى فليس بموحِّد ، والَّذين ظلموا أهل البيت(عليهم السلام) لم يكونوا موحدين ؛ لأنّـهم لم يـخـافــوا الله تـعـالـى فـي خـلقــه ، فـكـيـف بـمن استـخـلصهم واصطفـاهم الله تـبــارك وتـعــالى علـى خـلـقـه ، فـيـكـون مـن بــاب أولـى أنَّــه كـل مـن ظـلمهم وردَّ عـليـهـم كـان مـن
المشـركيـن من حيث لا يعـلم لأنّ الله تعـالى أمـرنـا بــالأخـذ منهم والتسليم لهم والتصديـق بهم ، قـال تعـالى : وَيوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعـاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ{22} ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ( )، يعني ما وضعوا أصناماً ظاهرة يعبدونهم من دون الله ويصلّون لهم ولكنّهم اتَّخذوا رجالاً من دون وليِّ الله وحجته فأمرهم بخلاف ما أمر الله به فأطاعوهم وبذلك عبدوهم من حيث لا يعلمون ، فردَّ عليهم الله سبحانه فقال:انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ( ).
إذن فـلا يـعـرف الله أحـد من الخلـق حق معرفته حتى يـأتي بـالشروط الَّتي تتوقـف عليها معـرفـة الله وهـذه الشروط هي معـرفـة أهـل البيت بما فـيهم فـاطمة ( عليهم السلام ) الَّتي هي قطب الرحى الَّتي تدور عليها معرفة أهل البيت (عليهم السلام) .
2ـــــــ جانب النبوة / أشارت الـزهـراء (عليها السلام) إلى النبوة بقـولها: (( ...وأشهد أنَّ أبي محمداً عبده ورسوله ، أختـاره وانتجبـه قبـل أن أرسله ، وسمّاه قبـل أن اجتبـاه ، واصطفـاه قبل أن ابتعثه ،إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة وبنهاية العدم مقرونة علماً من الله تعالى بمآيل الأمور وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة بمواقع المقدور )) .
علاقة الزهراء) (عليها السلام) بالنبوة : للزهراء(عليها السلام) ارتباط بمقام النبوة الخاتميـة ، فتارة يكون على نحو الأبوة وتارة يكون على شكل حب لهذه النسمة الطيبة ، ومرة أخرى على شكل الإرتباط العقائدي لها عليها السلام .
وأمّا ما رُوي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يمثِّـل الدعامة العظمى لإرتبـاط أقـرب الناس إليه وهي الزهراء(عليها السلام)، ولا يُقصد من ارتباطها بالنبي مجرد لأنَّه والدها، كلاّ بـل أنَّ هناك أمور غيبية ذكرت بعض الروايات أسرارها كما في حديث الصادق ( ( عليه السلام : (( ما تـكـاملت النبـوة لنبي حتى أقـرَّ بـفضلها ومحبَّتها ))( ) ممّا يدلُّ على ارتـبـاطها بـالنبـوة العامّـة
كارتباطها بالنبوة الخاصّة.
فكان اكرام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لها أكثر ممّا كان الناس يظنونه وأكثرمن إكرام الرجال لبناتهم حتّى خرج بها عن حدّ الآبـاء للأولاد، فقال( صلى الله عليه وآله ) مراراً لا مرة واحدة وفي مقـامـات مختلفة : (( إنّها سيـدة نساء العالمين ... وإنّها إذا مرّت في الموقف نادى منادٍ من جهة العرش: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد))( ) وقد جاء في بعض النصوص الَّتي تبيِّن مقامها من النبي(صلى الله عليه وآله) :
1/ جاء عن سعد بن أبي وقاص أنَّه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : فاطمة بضعة منّي، من سرَّها فقد سرَّني ومن ساءها فقد ساءني، وأنَّها أعزُّ الناس علي( )
2/ عـن عبدالله بـن الـزبيـر عن النبي ( صلى الله عليه وآلـه ) في حـديث : (( إنّها فـاطمة ، بضعة منِّي يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها ))( )
3/ عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : (( إنَّ فاطمة شعرةٌ منِّي فمن آذى شعـرة منِّي فـقـد آذاني ، ومـن آذاني فـقـد آذى الله ، ومـن آذى الله لعنـه الله ملئ السماوات والأرض ))( )
والـرسول (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهـوى ، إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ، فـكلامه يـدلُّ على أنَّـه ليس غضبـه بـإعتبـار أنَّـه والـدها وإنَّمـا غضبُ النبـوة ومقـامها السامي الَّـذي يمثّـل السمـاء وإلاّ فـلا معنى أن يـغضب الـرسول ( صلى الله عليه وآله ) لأنَّـه أبـاها الشخصي فـقط ؛ وذلك لأنَّـه في مثـل هـذه الحالـة سوف تـكـون العصبيـة لها بـإعتبـار القرابـة ، ولكـن الـرسول يـؤكـد من خـلال هـذه الأحاديث على حقيقـة مهمة جداً وهي مسألـة عصمة فـاطمة ، لأنَّـها لو كانت ممّن يقارف الذنوب لم يكن مؤذيها مؤذياً له(صلى الله عليه وآله) ولله تعالى .
علاقة الخصماء من رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لقد درج الخصماء على الإفـتـراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول أبي بكر: (( نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث)) ، وقـد رتَّب على مقـولتـه الكاذبـة مصادرة ممتـلكـات أهـل البيت وغصبـه فـدكاً ، فـأعترضت عليه الزهراء(عليها السلام) ودحضت مقولته بأقوال الله تعالى في إرث الأنبياء ، كما دافعت عن رسول الله قائلة : (( ماكان أبي رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفا ولا لأحكامه مخالفاً بل كان يتَّبع أثره ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر إعتلالاً عليه بالزور وهذا بعد وفاته شبيهٌ بما بُغي له من الغوائل في حياته ))
3ـــــ جانب الإمامة / الإمامة أحد الأصول المهمة ، والزهراء(عليها السلام) قد أشارت في خطبتها الغراء إليها بقولها : ((وإمامتنا أماناً من الفرقة)) وذلك يعني أنَّ الإمامة هي السبيل للأمان من حصول الفرقة بين المسلمين .
علاقة الزهراء بالإمامة : للزهراء(عليها السلام) ارتباط صميمي بالإمامة، وأهمُّ شاهدٍ على ذلك هو كـونها حجةً على الأئمة وذلك يتبين من حديث الإمـام الحسن العسكري ((عليه السلام : (( نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا))( ) فالـزهراء أثبتت اشتــراكـها مـع الأئـمـة ومنها : كـونها الصـراط المستــقـيم ، فـقـد ورد عـن جـابــر بــن عبـد الله الأنصاري قـال : قـال رسول الله ( ص ) : (( إنَّ الله جعـل علياً وزوجته وأبنـاءَه حجج الله على خلقه ، وهم أبواب العلم في أمتي ، من اهتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم ))( ) .
علاقة الخصماء بالإمامة : وكما تبيِّن الزهراء ( عليها السلام ) بقولها : (( ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ونجوتم من الضيـق بـالسعة فمججتم مـاوعيتم ودسعتم الَّذي تسوَّغتم ...)) وتـقـول في موضع آخـر: (( أفـإن مـات أو قُـتـل انـقــلبـتم عـلى أعـقــابـكم )) إشارةً مـن الـزهـراء ( عليها السلام ) إلـى إنـحــراف المسلميـن عـن المسار المحمـدي الــرسالـي الَّذي رسمـه رسـول الإنسانـيـة بـالـوصيّــة وخلافــة
أمير المؤمنين ( ( عليه السلام ، وهذا ما حصل ، فإنّ أحداث يوم السقيفة ونتائجها قد قطع المسار المحمدي العلوي ، وقـد استطاعت الأيـادي الخبيثـة للخصماء أن تـدفع المسلميـن وتحجبهم عـن الإمـام الـقـائـد المفـتــرض الطـاعـة والمُنصَّب إلهيـاً خـليـفـةً للمسلمـيــن ، ولـذا فــالــزهراء عليهـا السلام وجـدت إن واجـبهـا الشـرعـي يُحـتِّـم عـليها نـصـرة الـديـن والإنـتصـار لقضية أمير المؤمنين ( ( عليه السلام ، والإشارة إلى سلسلة المؤامرات والخطط والدسائس الَّتي تُحاك منذ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) واستمرت إلى ما بعد وفاته للقضاء على الخط المحمدي العلوي الأصيل .
4ــــ جانب العدل / أشارت الزهراء (عليها السلام ) إلى العدل بقولها : (( .. والعدل تنسيقاً للقلوب )) وذلك يعني : أنَّ حصول العـدل واستـتـبــابـه بيـن النـاس عامـل مهم وأساسي فـي اتحاد وتنسيق القلوب .
علاقة الزهراء بالأصل الإعتقادي (العدل) : كان الواجب الشرعي يُملي عليها مخاطبـة القـوم في الدفـاع عن القضيــة العـادلـة ( قضيـة إمامة أميــر المؤمنيـن عليـه السلام وإمـرتـه للمسلمين) تلك القضية الَّتي أرادها الله تعالى له كي يستتب العدل وتتآلف القلوب .
أين محل الخصماء من هذا الأصل الإعتقادي؟ : لقد ترجم الخصماء عقيدتهم الفاسدة والبـاطـلة إلى أفعـال ظالمـة تخالف الديـن والشرع والغيـرة والحميـة بمخالفـة أوامر الله تعالى بنكران الإمامة ومصادرة حقوق أهل البيت وإيذاء الزهراء وغصبها فدكاً ...إلى سلسلة من المؤامرات والإعتداءات على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقد خاطبتهم الزهراء ( عليها السلام ) موبِّخـةً لهم ومحذِّرتهم على سوء أفعالهم : (( فـدونكموها فـاحتقبوها دبـرة الظهر، نقبة الخف ، باقية العار موسومة بغضب الجبار وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة الَّتي تطَّلعُ على الأفـئـدة ، فبعيـن الله مـاتفعـلون { وسيعلم الَّذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون } وأنا ابنةُ نذيرٍ لكم بين يدي عذابٍ شديد { فاعملوا إنّا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون } .))
5ـــ جانب المعاد/ أشارت الصدّيقةُ الزهراء(عليها السلام) إلى المعاد بقولها : (( .. فدونكها
مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند
الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ))
المبحث الثالث
عملية التصحيح العقائدي... والصرخة الفاطمية :
لقد وجَّهت الـزهراء (عليها السلام) إشارات ضوئية حمراء من خلال الخطبـة الفدكيـة الغرّاء إلى كافة المسلمين عموماً وإلى أصحاب السقيفة المشؤومة الَّذين انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة الرسول ( ص ) خصوصاً.. وتلك محاولة منها جهد امكانها إلى تنبيه المسلمين إلى انحراف المسار المحمدي الرسالي الَّذي رسمه النبي ( ص ) ، وإلفات نظرهم إلى غفلتهم وسوء اختيارهم وانقلابهم على أعقابهم بعد هداهم وورودهم غير شربهم الصافي الَّذي كان يــروي ظمـأهـم وإسنــاد أمـرهم إلـى غيـر أهـلـه ، والفـتـنـة الَّتـي سقطـوا فـيهـا، وتـرك كـتـاب الله تعالى ومخالفتهم فيما يحكم به ..ولعلَّ القوم يثوبون إلى رشدهم ..
نعم أنَّـهـا الصرخـة الفـاطميـة ولا مـن مغيث ؛ لأنَّــه لا يـجيبها إلاّ من كان مـؤمنــاً.. وأنَّـها الدعوة الفاطمية إلى نصرة القضية العادلة في إمامة وخلافة أمير المؤمنين (( عليه السلام الَّذي نصَّبه الحق تعالى لإقامة حكومة العدل الإلهي على أرض المسلمين ، وهو الَّذي قال فيه النبي ( ص ) : (( ياعلي لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق )) ، فهل كان القوم مؤمنين؟ وهل بغضهم له إلاّ علامة النفاق والغدر والجرأة والإفتراء على الله تعالى ؟ .
فالزهراء(عليها السلام) تجد أنَّ الواجب الشرعي يُملي عليها أن تكشف الحقائق الَّتي أسدلوا عـليهـا ستــار الإسـلام المـزيَّـــف الَّـذي تـلبَّـسوا بــه ، وتـكـشـف غـدرهـم وتـخـاذل المسلميــن عـن نصرة الحق... فكان لابـدّ أن تكشف هذه الأوراق إلى الأجيال اللاحقـة .. وأخيراً فقد كلَّفها ذلك حياتها ، فهي سلام الله عليها أول شهيدة من أجل الإمامة والولاية .
فــالسلام عـليــك سيِّــدتي يــوم وُلـدت ويــوم أُستـشهدت ويــوم تُـبعـثـيــن حـيَّــةً يـــوم المحـشــر فتلتقطين شيعتك ومحبّيك .. ياوجيهة عند الله إشفعي لنا عند الله .
فهرس المراجع والمصادر
القرآن الكريم
1/ الأسرار الفاطمية : الشيخ محمد فاضل المسعودي ، تقديم السيّد عادل العلوي ، قم المقدسة .
2/ أطيب البيان في تفسير القرآن : السيّد عبد الحسين الطيب الأصفهاني ، تحقيق : مؤسسة السبطين العالمية
3/ أمالي الطوسي : أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت 460ه) ، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية ــــــ مؤسسة البعثة ، النشر : دار الثقافة ــــــــ قم ، الطبعة الأولى 1414ه .
4/ بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي ( ت 1111ه) ، الناشر : مؤسسة الوفاء بيروت ــــ لبنان ، الطبعة الثانية 1403ه .
5/ بشارة المصطفى : محمد بن علي الطبري ( ت 525ه) ، تحقيق : جواد القيومي الأصفهاني ، الناشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة ، الطبعة الأولى 1420ه .
6/ شرح نهج البلاغة : إبن أبي الحديد ( ت 656ه) ، تحقيق : محمد أبو الفضل ابراهيم ، الناشر : دار إحياء الكتب العربية ، الطبعة الأولى 1378ه ــــــ1959م .
7/ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل : الشيخ أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد المعروف بالحاكم الحسكاني الخداء الحنفي النسابوري ، النشر والطبع : مؤسسة النشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مجمع احياء الثقافة الإسلامية ، الطبعة الثانية .
8/ صحيح الترمذي : محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ، الناشر : مكتبة المعارف ، التصنيف : سنة 1917م .
9/ الصواعق المحرقة : ابن حجر الهيتمي الشافعي ، تحقيق : عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمد الخراط ، مؤسسة الرسالة ودار الوطن ، الرياض 1417ه .
10/ كشف الغمة في معرفة الأئمة (ع) : علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي ( ت 693ه) ، بيروت : دار الأضواء ، الطبعة الثانية 1405ه .
11/ لسان العرب : أبو الفضل ، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري ( ت 711ه) ، الناشر : أدب الحوزة ، قم ـــــ ايران 1405ه .
12/ مجالس المفيد : محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد ( ت 413ه) ، تحقيق : الحسين استاد ولي علي أكبر الغفاري ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم المقدسة .
13/ مسند أحمد : الإمام أحمد بن حنبل ( ت 241ه) ، الناشر : دار صادر ـــ بيروت ـــــ لبنان .
14/ مفاتيح الجنان : ثقة المحدّثين الشيخ عباس القمّي ، الناشر : استقلال ، المطبعة : عترت ـــــــ قم ، ط1 1424ه.ق ــــــ 1382ش .
15/ الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء(عليها السلام) : السيد إسماعيل الأنصاري الزنجاني الخوئيني ، الناشر : منشورات دليل ما ، محل النشر : قم سنة 1428ه الطبعة الأولى .
pdf