البحث او المقال
السيدة الزهراء في مواجهة الانحراف
في اللحظات الأولى من رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الى عالم الرضوان بدأت أولى حركات الانحراف في الأمة الإسلامية وأشدها خطراً وتأثيراً في مسار الإسلام والتي مازلنا نعيش آثارها في واقعنا المعاصر ،وكان لابد من اتخاذ خطوات تصحيحية لمعالجة الانحراف لإرجاع الامة نحو مسارها الصحيح الذي خطه الوحي الإلهي عبر سلسلة طويلة من الرسالات لبقاء هذه الرسالة الخاتمة صحيحة خالية من كل شائبة ،ولابد ان تكون هذه الخطوات التصحيحية قوية وفعالة بالدرجة التي تمكنها من القضاء على الانحراف القائم قبل ان يستفحل ويضرب بجذوره الارض .ولكون المبعوث بهذه الرسالة والمكلف بتبليغها للناس كافة كان ذو مقومات وخصائص إلهية كذلك لابد ان يكون المكلف بتصحيح ما يطرأ على هذه الرسالة والمشروع الإلهي من انحرافات ان يكون حاصلاً على نفس هذه الخصائص والمقومات ،وهذا ما توافر فعلاً في شخصية مولاتنا فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام بل هي بضعة من الرسالة الخاتمة ومظهر الرضا الإلهي وأحد الثقلين الواجب التمسك بهما ،وهذا الدور الفاطمي في مواجهة الانحراف أحد مظاهر حجيتها على العالمين ,فقد عملت على تحصين الأمة ضد الانهيار بقدم راسخة وروح مجاهدة وإيمان ثابت ,حتى يتم تصحيح الانحراف وإرجاع الوضع الحقيقي الذي أراده الله في الأمة الإسلامية حتى وأن كلف ذلك بذل النفس في سبيل إحياء الحق وإماتة الباطل.
لقد واجهت السيدة الزهراء البتول عليها الصلاة والسلام بعد استشهاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الانحرافات التي يمكن تلخيصها في الآتي : الانحراف الأول والرئيس وهو الاصل لكل الانحرافات اللاحقة هو انتزاع مقام خلافة الرسالة ومنصب الإمامة من مستحقها الشرعي ومحاولة إيجاد نظام بديل للجعل الإلهي لهذا المنصب في الفكر الإسلامي . أما ثانياً فكان : وضع الحديث ونسبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعم موقف واضيعها وتبرير الانحراف القائم . وثالثاً هو : الإقصاء والتهميش المتعمد لشخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام وإيجاد شخصيات في قباله لتكون بنفس الوزن والثقل لدى الأمة الإسلامية . أما الانحراف الرابع فكان : مصادرة ممتلكات الأسرة العلوية لمحاصرتها وإضعافها اقتصاديا لمنع حركة مسلحة محتملة وأبعادها عن دورها الاجتماعي في الأمة .هذا في جانب الانحرافات الحاصلة اما الخطوات والإجراءات الفاطمية المتخذة في مواجهتها والتصدي لها فهذا محور الحديث في هذا المقال إن شاء الله تعالى .
الاجراء الفاطمي الاول [1]: إعلان المعارضة والرفض للانحراف القائم ,لقد كانت حادثة انتزاع الخلافة والإمامة من مستحقها كارثة مدمرة امتحن الله بها المسلمون امتحاناً عسيراً فهي التي فتحت أبواب الطمع والتهالك على السلطة وبداية المعاناة لأهل بيت النبوة وأئمة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين ,ولكونها كانت خطوة سريعة ومفاجئة للأمة بادرت السيدة الزهراء عليها السلام دون تمهل بإعلان المعارضة والاحتجاج والتنديد بما اقترف من إقصاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأن الأمة من جراء ذلك ستواجه أعنف المشاكل وأقساها [2]. لقد كان إعلان المعارضة والرفض للانحراف الواقع للدفاع عن أصل الإمامة وشخص الإمام أولى خطوات التصحيح وأهمها في التحرك الفاطمي في مواجهة حرف الإمامة وقيادة الامة من مسارها ,فأعلنت صراحة بأن المستحق لذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقولها : "ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين الطبن بأمور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين"[3] لقد وقفت السيدة الزهراء عليها السلام موقفاً حاسماً صلباً شامخاً في نصرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كونه صاحب الحق في إمامة المسلمين وخلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .
الإجراء الثاني من الإجراءات الفاطمية :التعريف بالنظام الاسلامي في شرائط الإمامة والإمام والأسباب التي أدت لإقصاء أمير المؤمنين عليه السلام وما يترتب على ذلك ,حيث جاء في خطبتها عليها السلام "فجعل الله ... العدل تنسيقاً للقلوب وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أمانة للفرقة" ثم تواصل معرفةً بأمير المؤمنين عليه السلام وأهليته للمنصب الإلهي العظيم قائلةً : "... كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه ,مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله سيداً في أولياء الله ,مشمراً ناصحاً ,مجداً كادحاً لا تأخذه في الله لومة لائم"[4]. كما انها عليها السلام بينت الأسباب الداعية لإقصاء أمير المؤمنين و وضحت الآثار المترتبة على إقصائه والنتائج التي لو بقيت الإمامة في مهدها لاقتطفوا ثمارها حيث قالت : "وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا والله منه نكير سيفه وقلة مبالاته لحتفه ,وشدة وطأته ونكال وقعته ,وتنمره في ذات الله ,وتالله لو مالوا عن المحجة اللايحة ,وزالوا عن قبول الحجة الواضحة ,لردهم إليها ,وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه ,ولأوردهم منهلاً نميراً ,صافياً روياً ,ولا يترنق جانباه ,ولأصدرهم بطاناً ,ونصح لهم سراً وإعلاناً ,ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ,ولا يحظى منها بنائل .... ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"[5].
لقد أكدت السيدة الزهراء عليها السلام في خطاباتها الآنفة الذكر على اهمية المعرفة والتعريف بالحق وصاحبه لإتباعه ومواجهة الانحراف والظلم والاستبداد في قبال الحق وصاحب الحق ,فالمعرفة هي أول وأهم علاج لمواجهة ومكافحة الانحراف فالجهل هو وسيلة الظالمين المستبدين للتسلط على رقاب الناس وسلب حقوقهم ,وهنا نذكر كلام العلامة النائيني في هذا المجال : "الجهل هو الذي يدعوا الإنسان إلى عبادة الأوثان وإشراك الفراعنة والطواغيت في أسماء وصفات الذات الأحدية وهو الذي يؤدي به إلى الشقاء والبؤس ونسيان حريته ومساواته في الحقوق مع الجبابرة والطواغيت" ويضيف قائلاً : "وتملك الأمويين والعباسيين لرقاب الناس ... وتبعية المسلمين لعبدة الظلمة ... وغير ذلك من الشنائع والفضائح ما هو إلا نتيجة من نتائج الجهالة التي هي أم الشرور والأمراض"[6]. وهكذا اتخذت السيدة الزهراء عليها السلام المعرفة ومحاربة الجهل خطوة ثانية بعد اعلان المعارضة والرفض لتقدم لنا أنموذجاً في مواجهة الانحراف قائماً على العلم والمعرفة بالحق و ممثله والقائم به .
وكان الإجراء الثالث : تنظيم شؤون المعارضة وتوفير المقر الدائم والمركزي لها والدفاع عنها وحمايتها ودعوة الناس إلى تبنيها باعتبارها حركة قائمة من أجل الحق وإتباعه في قبال الانحراف وأتباعه , وهكذا تبنت السيدة الزهراء عليها السلام قيادة وزعامة الخط التصحيحي في الأمة ,وبعد خطبة الزهراء المعروفة بالمسجد وخطابها مع نساء المدينة انتشر الخبر سريعاً أن فاطمة ساخطة على ما جرى وسمع بذلك القاصي والداني في المدينة وخارجها ,وأنها عليها السلام تزعمت الحركة التصحيحية لإعادة الخلافة الإسلامية عن جادة الانحراف فكانت عليها السلام متزعمة الجبهة السياسية العلنية كما يطلق عليها في مصطلحاتنا اليوم [7]. ثم عملت الزهراء عليها السلام على فتح أبواب دارها للمؤيدين للحركة التصحيحية والمنضمين لها وإقامة اجتماعاتهم فكان بيتها مقر المعارضة[8] الذي كان ملاصقاً لمسجد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مركز المدينة الرئيس وقلبها النابض والذي كان أيضاً مقراً للحركة المقابلة وقادتها ,ولأجل ذلك حاولت السلطة بكل ما أوتيت من قوة وجهد لاختراق مقر المعارضة وإخراج المعتصمين منه ما أدى في نهاية المطاف إلى الهجوم على الدار حيث جرى على الزهراء تلك المأساة العظمى حيث هجم القوم على بيتها ليخرجوا زوجها ومن معه من البيت الذي كان لا يدخله رسول الله صلى الله عليه وآله إلا مستأذناً منها ! [9],حيث هبت عليها السلام للدفاع عن الوصي ووقفت خلف الباب بصلابة متناهية وخاطبت القوم بالحجة البالغة عسى أن يرتدع الظالمون ,ولم تلزم الصمت حتى بعد هذه الفاجعة فراحت تدافع عن أمير المؤمنين عليه السلام لأنه صاحب حق والقوم غاصبون لحق الخلافة الشرعية رغم كل الآلام التي تعرضت لها عند هجومهم للدار ,إن موقف الزهراء عليها السلام سجل اعتراضاً صارخاً واضحاً بأن الخلافة انحرفت عن مسارها وصاحبها الشرعيين [10].
رابعاً من الإجراءات الفاطمية : هو الدور الإعلامي وإيصال صوت المعارضة الحقه إلى كل دار من دور المدينة ,فأخذت عليها السلام تتجول في المدينة وتطوف بيوتها تدعوهم لنصرتها في قضيتها الحقه والانضمام الى صفوف الحق [11],وهكذا قامت السيدة الزهراء عليها السلام باستنهاض الأمة وبث الوعي فيها وفضح المغتصبين للخلافة ,مع التأكيد على عدم أهليتهم لتحمل أعباء مسؤولية زعامة المسلمين ,إلا ان هذه التعبئة لم تنجح في استنهاض اكثر الناس رغم كل المحاولات التي قامت بها عليها السلام والسبب في ذلك كما يراه الشهيد الصدر "لأسباب أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين أنفسهم ,لأن المسلمين وقتئذٍ لم يدركوا أن يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كل ما انفتح من بلاء على الخط الطويل لرسالة الإسلام"[12],وكان من نتائج هذا الاجراء الاعلامي الهام التفاف بعض من الشخصيات الهامة حول السيدة الزهراء وتبني مواقفها ,مثل الزبير وسلمان وعمار والمقداد وجماعة من بني هاشم وجمع من المهاجرين والأنصار [13],وكان هذا الاجراء قد سمح للمؤيدين للحراك الفاطمي للتعبير عن معارضتهم ولعل مما يدلل على ذلك ما قام به الإمام الحسن عليه السلام مع حداثة سنه بالوقوف امام الخليفة عندما كان على منبر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً اياه بصوت يسمعه كل من كان حاضراً "انزل عن منبر ابي"[14]ولم يكن هذا حدثا عابراً بل كان مؤثراً وكما يعبر عنه العقاد بقوله "الثورة الصغيرة" [15] ,وقد ذكر المحقق القرشي اثني عشر شخصية سجلت احتجاجاً واضحاً على ما جرى من اقصاء الإمامة عن مستحقها الشرعي من امثال سلمان والمقداد وأبي ذر وغيرهم[16].
الإجراء الخامس : التصدي لمحاولات السلطة لإضعاف صوت المعارضة ومحاصرتها اقتصادياً واجتماعياً ,فقد عمدت السلطة على اضعاف الحركة الفاطمية من خلال محاولة تهدف لإضعاف الحركة الفاطمية ومحاصرتها اقتصادياً وذلك بمصادرة الممتلكات الفاطمية ومن أبرزها فدك والحيطان السبعة بالمدينة المنورة ,وأرثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أموال بني النظير , ونصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر ثلاثة حصون هي : الوطيحة , السلالم , الكتيبة ,كما منعتها السلطة حق من حقوقها أوجبه الله لها وهو "سهم ذوي القربى" في قوله تعالى : " وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى " وبهذا منع الحزب الحاكم الزهراء عليها السلام من جميع ميراثها ولم يقر لها بشيء منه [17],كما عمد إلى وضع الأحاديث عن لسان النبي لدعم موقف الاستيلاء على الممتلكات الفاطمية من قبيل " لا نورث ما تركناه صدقة "[18] فثارت الزهراء عليها السلام مطالبة بحقها مجتهدة في الحصول على ميراثها ,وعملت على رد الاحاديث المنسوبة للنبي بمنهج علمي رصين من خلال إيضاحها لمخالفة هذه الاحاديث لصريح الآيات القرآنية ومعارضتها الأحكام الشرعية وواجهت الاحاديث المزعومة بتصريح الآيات القرآنية بوراثة وتوريث الأنبياء ,إلا أن هذا لم يشغل الزهراء عن مواصلة المطالبة بالحق الأهم والأساس وبذلك أفشلت محاولة السلطة من اشغال الحركة الفاطمية بأمور ثانوية كالمطالبة بفدك ,فجمعت عليها السلام بالمطالبة بالأمرين معاً ,فكان هدفها الأسمى هو رد الإمامة لمستحقها ,يذكر ابن ابي الحديد :"سألت علي بن الفارقي أكانت فاطمة محقة ؟ قال نعم ,قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فقال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه"[19] و يذكر السيد الميلاني : "السر في المطالبة بفدك يتلخص في الإعلان عن حق أمير المؤمنين عليه السلام في الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإعلان عن عدم أهلية من تصدى للخلافة لعدم توفر الشروط فيه "[20] ولو فحصنا أي نص من النصوص التاريخية المتعلقة بفدك فلا نجد فيها نزاعاً مادياً حول فدك بواقعها المحدود بل هي الثورة على أساس الحكم المنحرف والصرخة التي أرادت لها الزهراء عليها السلام أن تصل إلى كل الآفاق لتقتلع بها الحجر الأساسي الذي بني يوم السقيفة[21].
وبعد كل هذه الإجراءات الفاطمية اتخذت الزهراء عليها السلام إجراءً سادساً وهو : اعلانها مقاطعة رموز السلطة ,فقد اتخذت السيدة الزهراء عليها السلام في حركتها التصحيحية ألواناً وصيغاً متعددة ,وعندما لم ترى من الحزب الحاكم إلا المواصلة والإصرار على نهج العنف والشدة وشراء الذمم من أصحاب المطامع والأهواء ,والمضي في منع صاحب الحق وإقصائه عن حقه ,عند كل ذلك أعلنت عليها السلام رسمياً أمام الملأ المقاطعة قائلةً : (والله لا كلمتك أبداً) [22]. وقد حاولت السلطة كسر هذه المقاطعة بعيادة الزهراء عليها السلام وزيارتها عند مرضها فأبت أن تأذن لهما مصرةً على مواصلة ما بدأته من مقاطعة حتى إذا أعادا الطلب عليها قالت : (والله لا آذن لهما ,ولا أكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني) وعندما طلب منها أمير المؤمنين عليه السلام ذلك بعد إصرارهما عليه أذنت لهما بزيارتها وكان عندها جمع من نساء المدينة فدخلا وسلما ولم ترد عليهما وحولت وجهها عنهما حتى فعلت ذلك مراراً ,ثم قالت مخاطبة من كان حاضراً : (اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني ,أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي ,والله لا أكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما بي وارتكبتماه مني)[23]. وبهذا استمرت مقاطعتها حتى استشهادها عليها السلام حيث أوصت بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها وكانت هذه الوصية الإعلان الأخير من الزهراء عليها السلام عن نقمتها على الخلافة القائمة [24].
وكان من المهم إتخاذ إجراء يضمن بقاء الحركة التصحيحية وإستمراها ,فكان ذلك بالإجراء السابع : المتمثل في بقاء المنهج التصحيحي الى يوم القيامة , فما كان من السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام إلا أن جعلتها ظلامة إلى يوم القيامة وجعلت الله حكماً بينها و بين القوم الظالمين حيث قالت: "... فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ... "[25]. حيث جعلتها خصومة مستمرة إلى يوم القيامة , و هذا يبين ويفسر عدم رد أمير المؤمنين عليه السلام لفدك وبقية أرث الزهراء عليها السلام حين استقر له أمر الخلافة ,وعدم قبول الأئمة من بعده استرجاعها في عهد من ردها إليهم ,وبقاء هذه المظلومية إلى يوم القيامة ظهرت نتائجها الإيجابية على مر التاريخ حيث رد فدك إلى أحفاد الزهراء عليها السلام كلاً من الأموي عمر بن عبد العزيز والعباسي المأمون , وأياً كان الدافع وراء ذلك إلا أنها تعد شهادة متأخرة على أحقية الزهراء عليها السلام بميراثها الذي منعت منه وصدق دعواها[26],وما شكلته حركة الزهراء عليها السلام من مصدر إلهام ومحطة توقف وتأمل لكثير ممن ألتحق بسفينة أهل البيت عليهم السلام وهذا يبدوا واضحا في كتابي ليالي بيشاور والمراجعات مثلاً اللذين احتلت فيهما قضية الزهراء مساحة لا بأس بها ,مضافاً إلى ما يذكره بعض المستبصرين من أن حركة الزهراء التصحيحية محطة لا يمكن تجاوزها عند البحث حول موضوع الإمامة والإمام[27]. وبهذا لا يزال جهاد الزهراء مستمراً وحاضراً في الساحة الإسلامية حتى يعود الحق إلى أهله ويعود الفضل في ذلك لصاحبة هذه الحركة التي ضمنت بقاء الخط التصحيحي واستمراره ,وما زال المتمسكون بنهج الزهراء عليها السلام في كل عام عندما تحل الأيام الفاطمية لذكرى استشهادها ,تستذكر مظلوميتها بالحديث عن جهادها ضد ما قامت به الزمرة الظالمة التي اغتصبت حق الإمام وحقها ,وإحياء مبادئ نهضتها وحركتها التصحيحية.أما الحديث عن مدى نجاح الحركة الفاطمية فيمكن القول بأنها "انحسرت بمعنىً ونجحت بمعنى آخر ,انحسرت لأنها لم تطح بحكومة الخليفة ونجحت لأنها جهزت الحق بقوة قاهرة وأضافت إلى طاقته الخلود في ميدان النضال وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلها وفي محاورتها مع رموز السلطة"[28].
ان المنهج الفاطمي في مواجهة الانحراف والتصدي له يقدم لنا دستوراً قيما ونهجا واضحا للسير وفق إجراءاته وخطواته للمطالبة بالحقوق العامة سياسية كانت او اجتماعية او اقتصادية ،قائمة على المعرفة بالحق والإيمان الثابت بالقضية الحقه والأخذ بمبادئ الإسلام في بيان الحقوق الفردية والمجتمعية ،وان على الأمة النهوض في مواجهة الظلم والاستبداد وحفظ الامة والسعي لحفظ قيادة الأمة في ايد امينة تتوفر فيها مقومات الادارة والكفاءة وقادرة على تحقيق مبادئ الاسلام في الأمة من العدالة والمساواة بين الناس كافة في الحقوق والواجبات والحرية القائمة على الأسس الشرعية والانتصار للمظلوم من الظالم .
ان السيدة الزهراء عليها السلام هي رمز من رموز الثائرين للانتصار للحق والحقوق ، وأنموذجاً يقتدى به في النهضة من اجل التغيير لما فيه صلاح الإنسانية والبشرية ،وخير دليل على ان للمرأة المسلمة في الساحة السياسية والاجتماعية والحقوقية مساحة كافية للمشاركة في ابعاد الحياة ومجالاتها ,دون ان يتعارض ذلك مع ما حدده لها الشرع من القيام بحقوق الأسرة وإلتزام الحجاب والحفاظ على العفاف ,"وهو قد مورس فعلاً من قبل المرأة في التاريخ الإسلامي وهذا يعني ان للمرأة المسلمة دور كامل في عملية الثورة على النظام والنضال ضده حتى إسقاطه ؛فإن المرأة المسلمة عند التزامها بالإيديولوجيا الإسلامية لا تكون امرأة هامشية بل تكون في الموقع الأكثر تقدماً وثورية "[29]،وان ما يدعوا اليه دعاة حرية المرأة وتجريدها من هويتها الإسلامية مدعين بذلك انه يقف مانعاً أمام المرأة لممارسة دورها في مختلف مجالات الحياة ما هي إلا أوهام نسجتها أفكارهم لإخراج المرأة من الفضيلة الى الرذيلة وما هي الا حبال شيطانية مغلفة بغلاف حرية المرأة .
وهكذا تبقى السيدة الزهراء عليها السلام أسوة وقدوة لجميع نساء العالمين في شتى مجالات الحياة على اختلاف ابعادها وتعدد ادوارها ،فالسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث شفيعة للمظلومين والمستضعفين والمضطهدين.
ماجد عبد الهادي الفردان
الأحـــســـاء – 1436هـ
[1] لم نعتمد في ترتيب الإجراءات الفاطمية على ترتيبها الزمني الواقعي وإنما عملنا على عرضها بهذا الشكل وفقاً لما هو مذكور في المصادر المعتمدة في المقال ووفق ما يتناسب مع عرض الفكرة محل البحث ,كما إننا لا نحصر الإجراءات الفاطمية الفعلية بالعدد المذكور ,فلعله فاتنا منها شيء او لم نستطع التوصل إليه لقلة المصادر أو لضعف الجهد البحثي من قبلنا .
[2] موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب ,المحقق العلامة الشيخ باقر شريف القرشي ,ج2 ص126.
[3] الاحتجاج للعلامة الطبرسي ج1 ص127 .
[4] المصدر سابق ,ج1 ص117 وما بعدها .
[5] الاحتجاج للطبرسي ج1 ص127 و128 .
[6] تنبيه الأمة وتنزيه الملة ,العلامة الشيخ محمد حسين النائيني ,تحقيق عبدالكريم آل نجف , ص202 -205 .
[7] موسوعة اعلام الهداية ,ج3 , ص150 وما بعدها ,المجمع العالمي لأهل البيت – قم المقدسة .
[8] معالم المدرستين ,السيد مرتضى العسكري ,ج1 ص164 ,شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج6 ص231 , ومصادر اخرى راجع الهامش التالي .
[9] تاريخ اليعقوبي ,أحمد بن أبي يعقوب ,ج2 ص126 , تلخيص الشافي ,شيخ الطائفة ابي جعفر الطوسي ,ج3 الصفحات72 - 77 راجع أيضاً : بيت الاحزان للشيخ المحقق عباس القمي وشرح النهج لابن ابي الحديد الصفحات 231-235 , ومعالم المدرستين للسيد العسكري الصفحات 165-172 .وغيره من المصادر في ذكر اجتماع الممتنعين عن البيعة في دار فاطمة عليها السلام والهجوم على دارها .
[10] موسوعة أعلام الهداية مصدر سابق , ج3 ص165 و166 .
[11] بيت الأحزان في ذكر احوالات سيدة نساء العالمين للمحدث الجليل الشيخ عباس القمي , معالم المدرستين للسيد العسكري ج1 ص171.
[12] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ,الشهيد السيد محمد باقر الصدر ,ص185 .
[13] معالم المدرسيتين للسيد العسكري , ج1 ص164 .
[14] شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ,ج6 ص227.
[15] فاطمة الزهراء والفاطميون ,عباس محمود العقاد ص73 .
[16] راجع ذلك في : موسوعة الإمام أمير المؤمنين ,للمحقق القرشي ,ج2 الصفحات 126 – 140.
[17] راجع تفصيل ذلك في : فدك وفاطمة للسيد علي عباس الموسوي , مسألة فدك و حديث إنا معاشر الأنبياء لا نورث لآية الله السيد علي الحسيني الميلاني , ليالي بيشاور للسيد الشيرازي المجلس الثامن .وغيرها من المصادر الكثير .
[18] راجع الحديث في : شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد ,ج6 ص230 وللحديث صيغ وألفاظ اخرى ذكرها في أواخر الجزء السادس عشر .
[19] شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ,ج16 ص428 .
[20] مسألة فدك وحديث إنا معاشر الأنبياء لا نورث ,لآية الله السيد علي الحسيني الميلاني ,ص37.
[21] موسوعة اعلام الهداية ,مصدر سابق ,ج3 ,ص 151 .
[22] شرح نهج البلاغة ,مصدر سابق ,ج16 ص379.
[23] بيت الأحزان , مصدر سابق .
[24] شرح نهج البلاغة ,مصدر سابق ,ج16 ص379 ,موسوعة اعلام الهداية ,مصدر سابق ,ج3 ص158 .
[25] الاحتجاج ,العلامة الطبرسي ,ج1 , ص121 .
[26] فدك وفاطمة ,مصدر سابق ,ص54 .
[27] راجع في ذلك على سبيل المثال قصص المستبصرين ومؤلفاتهم في كتاب "الدليل لظاهرة التحول العالمية نحو منهج أهل البيت" للباحث محمد علي عواضة والشيخ هشام آل قطيط .
[28] موسوعة اعلام الهداية ,ج3 ص159 .