سيرة الحسين فكر ودروس
سيرة الحسين فكر ودروس
بقلم : عبد الجليل الكنين
من الأحساء
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)([1]).
مقدمة:
إن هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصور لنا الدنيا بأروع وأجمل مثال، لأنه يبين لنا أن الدنيا كلها ظلمات وأمواج متلاطمة، تأخذ من كان فيها إلى الضياع والضلال، وعدم وضوح المنقلب.
ولكن الله تبارك وتعالى أرحم من أن يترك خلقه وعباده في ظلماتها، ومن دون أن يجعل لهم سبباً به يصلون إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
ومن هذه الأسباب التي بها يسترشد الإنسان هو الإمام الحسين عليه السلام، حيث أن رسول الله- صلى الله عليه وآله- قد شبهه- في هذا الحديث الشريف- بالمصباح الذي ينير للإنسان دروب الظلام، وهو السفينة التي ينجو بها من أمواج الجهل والضياع.
فهل يتمكن الإنسان أن يسري في طريق مظلم وبحر متلاطم إلا بمصباح منير وسفينة آمنة، ولهذا يكون- هذا المصباح- سبباً لوصوله وبلاغه طريق النجاة والهداية كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الكلمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقها وشهد بها القريب والبعيد، المسلم وغير المسلم؛ لأن الشمس في واضحة النهار لا يمكن أن ينكر وجودها سليم العقل والعينين.
ومن هؤلاء الذي شهدوا بهذه الحقيقة الأستاذ (كومار) وهو من طليعة مثقفي الطائفة الهندوسية ورجالها حيث يقول:
(أنا مُسلمٌ للحسين... مسلم للإمام الذي أرانا طريق الإنسانية)([2]).
فتأمل كيف صرح هذا الرجل- غير المسلم- بأن الإمام الحسين عليه السلام هو طريق الإنسانية الذي يتخذه الإنسان منهجاً ودرساً في هذه الحياة، ومصباحاً ينير القلوب في غياهب الجهل.
ومن المستشرقين الذين شهدوا بذلك، وأقروا بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤرخ والمستشرق (ديورانت)، حيث يقول:
(إن معركة كربلاء كانت لأجل العرش)([3]).
وهو يقر- في كلمته- بأن ما صدر وما جرى من الحسين عليه السلام كان من أعلى وأسمى الصور، حتى صارت أفعال الإمام الحسين عليه السلام عرشا، والعرش دائما هو السامي الذي يُقتدى به ويُتخذ نبراسا ومنهجا ودرسا للحياة.
وأما من علماء المسلمين والإمامية الذين أقروا بهذه الشهادة فكثير، ومنهم السيد كاظم الرشتي الحسيني قدس سره الشريف يقول:
(قد اشتهر خبره وانتشر ذكره إلى أن لم يبق في الدنيا مكان لم يطلعوا على هذه المصيبة الهائلة، فظهر الإسلام وعلت كلمة التوحيد واسم النبي صلى الله عليه وآله ووصل التكليف بالإيمان إلى كل أحد ولم يلزم إلجاء أحد إلى الإيمان) ([4]).
فهنا يصرح السيد قدس سره الشريف بأن الإمام الحسين عليه السلام صار سبباً لهداية الخلق وإعلاء كلمة التوحيد، بل لولاه سلام الله عليه لم يصل لنا من الإسلام شيء.
ومن العلماء أيضا الشيخ محمد آل أبي خمسين قدس سره الشريف يقول:
(الحمد لله الملك العلام... حيث أنار قلوب المؤمنين، بشعاع نور الحسين... وأبان الرشد من الغي، وميز الميت من الحي، بشهادة إمامنا الحسين)([5]).
فهنا شهادة صريحة منه قدس الله نفسه الزكية بأنه بنور الإمام الحسين عليه السلام تبين طريق الحق من طريق الضلال، وطريق الرشد من الغي، وصارت شهادته عليه السلام مميزة لحي القلب من ميته.
فإذا لا ريب ولا شك أن الإمام الحسين عليه السلام جامعة إنسانية ومصباح منير وسيرته درس وقدوة لجميع من أراد أن يصل إلى كمال الإنسانية ويحقق صفاتها النبيلة، كما شهد بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد بذلك مفكرو العالم وأساتذته.
ومن هذا المنطلق نحب أن نسلط الضوء أكثر على بعض النقاط في حياته الشريفة التي يحتاج إليها كل إنسان أحب البلوغ إلى رتبة الإنسانية، منطلقين من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي صدرنا به بحثنا. وبحثنا يتكون من:
الأمر الأول
معنى (مصباح الهدى)
المبحث الأول: معنى (المصباح).
والكلام في معنى (المصباح) يقع في عدة نقاط:
النقطة الأولى: (المِصْبَاح) لغة:
المصباح- لغة-: (السراج) ([6]).
يقول الله تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجاً)([7]).
فهنا وصف الله تبارك وتعالى الشمس أنها سراج لكونها مصباحاً للخلق.
النقطة الثانية: معنى (المصباح) في اصطلاح العلماء:
قال الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه في تعريف المصباح هو:
(السراج المركب من نار ودهن) ([8]).
وقال الشيخ أبو الحسن الفتوني رضوان الله عليه في تعريف المصباح هو:
(السراج المضي) ([9]).
النقطة الثالثة: حقيقة (المصباح):
يرى الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه أن حقيقة المصباح هو عقل الرسول الأعظم وآله عليهم السلام؛ لأن عقلهم عليهم السلام هو السراج الذي ينير للآخرين طريقهم فيقول:
(المصباح هو العقل الكلي، فعقولهم التي هي شيء واحد تقسّم في هياكل التوحيد)([10]).
ومن ضمن هذه العقول المنيرة عقل الإمام الحسين عليه السلام، ولذلك عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه (مصباح الهدى).
وهذا المعنى الذي أورده الشيخ رضوان الله عليه مما ورد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، ومن ضمنها:
قال الله عز وجل يصف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)([11]).
ففي الآية الشريفة أطلق الله عز وجل كلمة سراج على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، والسراج هو المصباح كما تقدم.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (فِيهَا مِصْبَاحٌ)([12]) قال:
(فيه نور العلم يعني النبوة...)([13]).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
(أنا المصباح)([14]).
وروي عن علي بن جعفر قال:
(سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول الله عز وجل: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) قال: المشكاة: فاطمة عليها السلام. والمصباح: الحسن والحسين عليهما السلام...)([15]).
وقال الإمام علي الهادي عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة في وصفهم عليهم السلام:
(وَمَصابِيحِ الُّدجَى) ([16]).
وعلى هذا يتبين أن معنى المصباح الذي ذكره الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه مأخوذ من صميم القرآن الكريم والروايات الواردة عنهم عليهم السلام.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نور لغيره. وهذه الصفة أيضا موجودة في سبطه الإمام الحسين عليه السلام، حيث أنه سراج، أي: منير، ينير للآخرين ويُتخذ سلام الله عليه طريقا ومنهجا يقتدى به عليه السلام.
وقد كُتِبَت هذه الكلمة على أسمى مصاديق الخلقة وهو العرش حيث كُتِبَ عليه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اسمه مكتوب عن يمين العرش إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) ([17]).
وهذه الشهادة في كون الإمام الحسين عليه السلام نور يقتدى به عليه السلام شهد بها الشاعر المسيحي (ريمون قسيس)، حيث يقول في وصف الإمام الحسين عليه السلام:
يــــا حـــســـيــــن الفداء تفديك نفسي
أنت نوري المضيء يضحي ويمسي
مـــــــا دروا أنك الــحــقــيــقــة تبقى
قد دحرت الزمان يــدجي ويــغـسـي ([18])
المبحث الثاني: معنى (الهدى):
والكلام في معنى (الهدى) يقع في عدة نقاط:
النقطة الأولى: (الهدى) لغة:
الهدى: جمع كلمة (هداية)، وهي: (الاسترشاد)([19]).
تقول فلان صار هداية لفلان أي صار مُرشِداً له.
· ثانيا: معنى (الهدى) في اصطلاح العلماء:
يعرف الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه كلمة الهدى بقوله:
(الهدى: الرشاد والدلالة. وهداه: أرشده ودله بنفسه)([20]).
أي كل مرشد ودال بنفسه هو هدى يريك طريق الرشاد والدلالة المنجية.
ويعرف الشيخ أبو الحسن الفتوني رضوان الله عليه كلمة الهدى بقوله:
(الهدى...الدلالة إلى الحق والدعاء إليه وإراءة طريقه والإرشاد إليه والأمر به) ([21]).
· النقطة الثالثة: حقيقة (الهدى):
يرى الشيخ الأوحد رضوان الله عليه أن أهل البيت عليهم السلام جميعا هم حقيقة الهدى والهداية فيقول:
(الحاصل، الذي تقتضيه الأدلة أنهم مهديون من الله سبحانه وتعالى....وأنهم هادون بالله إلى الله سبحانه فيوصلون إلى المطلوب...لأنهم مع الحق والحق معهم وفيهم وبهم ومنهم ولهم، فلا يفارقهم الهدى ولا يفارقونه)([22]).
فهم عليهم السلام حقيقة الهدى، ومنهم الإمام الحسين عليه السلام فهو مصباح الهدى أي سراج ينير ويضيء لطريق الرشد والإرشاد والدلالة بنفسه الشريفة سلام الله عليه.
والمعنى الذي أورده الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه مما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام ومن جملتها:
ما ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال:
(تفسير الهدى علي عليه السلام) ([23]).
وورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال:
(الهدى سبيل علي عليه السلام) ([24]).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) ([25]) قال:
(من قال بالأئمة واتبع أمرهم ولم يجز من طاعتهم)([26]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معرض حديثه عن أهل البيت عليهم السلام:
(إنهم هداة مهديون) ([27]).
وقال الإمام علي الهادي عليه السلام في زيارتهم عليهم السلام:
(وأئمة الهدى) ([28]).
فكل هذه الروايات الواردة في كلمات أهل البيت عليهم السلام صريحة في المعنى الذي أورده الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه.
وفي هذا المقام نعم ما قال الشاعر (ريمون قسيس) في الإمام الحسين عليه السلام حيث يقول:
هـــو هـــدي مــن الإله تبدى
لحفيد فـؤاده فـــي تــقــســـي
جــئـت أروي مسيرة لحسين
أتملاهـا نــور وحـــي وقبس
وسراجـا مزهوهرا ووضيئا
ولئن كــانــت النجوم لـحس ([29]).
الأمر الثاني
بعض مصاديق كون الإمام الحسين عليه السلام مصباح للهدى
توجد عندنا مصاديق كثيرة بل كل حياته عليه السلام مصباح للهداية ودرس لطالبي طريق الإنسانية، صدقها التاريخ والنقلة والواقع، حيث إلى يومنا هذا وملايين البشر جعلوا من الحسين عليه السلام منهجا وقدوة ودرسا، وجامعة لهم يستقون منها شتى العلوم والمعارف على مختلف الأصعدة وطبقات البشر فنذكر على سبيل الذكر ثلاثة مصاديق بارزة في حياته عليه السلام:
المصداق الأول: الشهادة الخالدة.
ما أن يذكر اسم الإمام الحسين عليه السلام إلا وتذكر شهادته السامية الخالدة التي تتجدد على مر العصور والقرون ويعيشها المحبون والناهجون نهج الحسين عليه السلام ذكرى حية طرية لا تزيدها الأيام إلا علوا.
ولو تأملنا لوجدنا أن هذه الشهادة لها سر ولطف إلهي حيث أن غالب الأحداث التي جرت في العالم وعلى مدى التاريخ لا نرى أثرا وتأثيرا لها كما أثرت شهادته الخالدة في التاريخ على شتى اختلاف طبقات الناس واختلاف دياناتهم وطبقاتهم، وهذا الأمر يعطينا إشارة إلى أن أمر شهادة الحسين عليه السلام وبقاء ذكره أمر ولطف إلهي، وقد شهد بذلك كثير، ومنهم:
أولاً: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال:
(إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً) ([30]).
فأول الشاهدين بخلود هذه الشهادة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرن وجود المؤمن بوجود وذكر الإمام الحسين عليه السلام، وهذا مما يجعل الإنسان جدير بالتأمل حول هذه الشهادة.
ثانياً: أخته العقيلة زينب عليها السلام حيث قالت:
(لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً) ([31]).
ثالثاً: السيد كاظم الرشتي رضوان الله عليه يقول:
(فجعل الناس يقيمون عزاءه في كل مجلس في كل سنة بل في كل شهر بل في كل أسبوع بل في كل يوم في البلدان وأطراف الأرض في كل الأوقات فصار ينتشر الخير شيئا فشيئا ويزداد الاشتهار في كل وقت وساعة) ([32]).
رابعاً: المستشرق الهنغاري (أجنانس غولد تسهير) يقول:
(إن نزاعا داميا قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي وقد زَودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم)([33]).
خامساً: الشاعر المسيحي (جورج شكور) حيث يقول:
عــلــى الضميرِ دمٌ كالنارِ مَوّارُ
إن يُــذبـــَحِ الـحـقُّ فالذُّباحُ كُفّارُ
دمُ الحسينِ ســخــيٌّ في شهادتِهِ
ما ضاع هَدْراً، به للهَدْي أنوارُ([34]).
وخلاصة الكلام إن كل هذه الشهادات إقرار لخلود ذكرى شهادته عليه السلام، بل أن هذا الخلود صار سببا في الانتفاع بسيرته عليه السلام كما بين ذلك الكتاب والباحثون وشهدوا بذلك.
والكلام حول شهادته وما جرى فيها مما يطول به الكلام حيث حيرت الألباب والأفهام؛ لأنها شهادة فريدة من نوعها فقد تجلت في يوم شهادته كل مصاديق أخلاق الإنسانية من الإباء والحلم والشجاعة والإيثار والمروءة والسماحة والعفو عن المسيء والصبر والتسليم لأمر الله تعالى وغير ذلك.
المصداق الثاني: خضوعه لله تبارك وتعالى.
مما يلاحظه المتتبع في سيرة الإمام الحسين عليه السلام خضوعه المطلق لله تبارك وتعالى، حيث جسد أروع وأسمى الخضوع له عز وجل، وليس العبادة الحقيقة إلا الخضوع لله تبارك وتعالى.
وقد عرَّف المتكلمون العبادة بقولهم هي:
(هي الخضوع الناشيء عن اعتقاد خاص هو اعتقاد الخاضع أن المَخضُوع له هو خالقه وربه أي المالك لشؤون العابد كلها في دينه ودنياه وآخرته)([35]).
فالخضوع والخشوع هي حقيقة العبادة، وخضوعه عليه السلام صار سببا في بقاء اسمه وأمره عليه السلام على مر هذه العصور والأزمنة.
روايات في خضوع وخشوع الإمام الحسين عليه السلام لله تبارك وتعالى:
الرواية الأولى: روى ذلك ابن شهر آشوب عن عيون المحاسن:
(أن الحسين عليه السلام ساير أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى عليه السلام ثم قال: اذهب عني، قال أنس: فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلا:
يـــارب يـــارب أنــت مــولاه
فـــــارحم عــبـيـدا اليك ملجاه
يـــا ذا المعالي عليك معتمدي
طـوبــى لمن كنت انت مولاه
طـوبــى لمن كان خادما ارقا
يـشــكو الى ذي الجلال بلواه
ومـــا بــــه عــلــة ولا سـقـم
اكـــثـــر مـــن حبه لـمولاه
اذا اشـتـكـى بـثـه وغـصـته
اجــابـــه الله ثــــم لـــبـــاه
إذا ابتلي بالظلام مـبـتـهـلا
أكـــرمـــه الله ثــــم أدنــاه
فنودي:
لبيك عــبــدي وانت فــي كنفي
وكــلـــمـــا قـلت قد علـمــنـــاه
صــوتـــك تشتاقه ملائــكــتــي
فحسبك الصوت قد سمــعــنـاه
دعاك عندي يجـول في حجب
فحسبك الستر قـد ســفــرنـــاه
لوهبت الريح مــن جــوانــبه
خر صريعا لــمــا تــغــشــاه
سلني بـلا رغـبــة ولا رهب
ولا حســاب اني انا الله) ([36]).
فهذه الرواية الواردة تبين لنا خضوعه المطلق لله تبارك وتعالى، وكلماته عليه السلام تبين مدى الخشوع والخضوع الإلهي في وجوده عليه السلام.
الرواية الثانية: الرواية الواردة عن الإمام الحسين عليه السلام يقول:
(وَأَنَا أُشْهِدُكَ يَا إِلَهِي بِحَقِيقَةِ إِيمَانِي، وعَقْدِ عَزَمَاتِ يَقِينِي، وخَالِصِ صَرِيحِ تَوْحِيدِي، وبَاطِنِ مَكْنُونِ ضَمِيرِي، وعَلَائِقِ مَجَارِي نُورِ بَصَرِي، وأَسَارِيرِ صَفْحَةِ جَبِينِي، وخُرْقِ مَسَارِبِ نَفْسِي، وخَذَارِيفِ مَارِنِ عِرْنِينِي، ومَسَارِبِ صِمَاخِ سَمْعِي، ومَا ضَمَّتْ وأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ شَفَتَايَ، وحَرَكَاتِ لَفْظِ لِسَانِي، ومَغْرَزِ حَنَكِ فَمِي وفَكِّي، ومَنَابِتِ أَضْرَاسِي، وبُلُوغِ حَبَائِلِ بَارِعِ عُنُقِي، ومَسَاغِ مَطْعَمِي ومَشْرَبِي، وحِمَالَةِ أُمِّ رَأْسِي، وجُمَلِ حَمَائِلِ حَبْلِ وَتِينِي، ومَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَامُورُ صَدْرِي، ونِيَاطُ حِجَابِ قَلْبِي، وأَفْلَاذُ حَوَاشِي كَبِدِي، ومَا حَوَتْهُ شَرَاسِيفُ أَضْلَاعِي، وحِقَاقِ مَفَاصِلِي، وأَطْرَافِ أَنَامِلِي، وقَبْضِ عَوَامِلِي، ودَمِي، وشَعْرِي، وبَشَرِي، وعَصَبِي، وقَصَبِي، وعِظَامِي، ومُخِّي، وعُرُوقِي، وجَمِيعُ جَوَارِحِي، ومَا انْتَسَجَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامُ رَضَاعِي، ومَا أَقَلَّتِ الْأَرْضُ مِنِّي، ونَوْمِي ويَقَظَتِي، وسُكُونِي وحَرَكَتِي، وحَرَكَاتِ رُكُوعِي وسُجُودِي، أَنْ لَوْ حَاوَلْتُ واجْتَهَدْتُ مَدَى الْأَعْصَارِ والْأَحْقَابِ لَوْ عُمِّرْتُهَا، أَنْ أُؤَدِّيَ شُكْرَ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذَلِكَ، إِلَّا بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ شُكْراً آنِفاً جَدِيداً...) ([37]).
يتبين لنا من كلماته عليه السلام كمال الخضوع والخشوع لله تبارك وتعالى ولذلك صار بخضوعه وخشوعه يتعلم الخاضعون والخاشعون لله تبارك وتعالى خضوعهم وخشوعهم.
علماء أقروا بذلك:
وقد أقر جملة من العلماء والمفكرين بخضوعه المطلق لله تعالى، وتفانيه في طاعته تعالى، وممن أقر بهذا الكلام:
أولاً: الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه في قصيدته حيث يصف الإمام الحسين عليه السلام قائلا:
وأعظم الرزء ما خص الحسين به
له لمن خص تعظـيـم وتــبــجــيــل
إن المصاب على قدر المصاب بـه
وللرزايا أعـاجــيــب تــهـــاويــــل
ذا غلة والــفــرات الـعـذب ينظـره
والكلب يرتع فيه وهو مــتــلــــول
كـــمـا هو ساجدا بل كان أعظم إذ
هوى بــكـــل خضوع فيه تجليل ([38]).
ثانياً: السيد كاظم الرشتي قدس سره الشريف يقول:
(وظهر...بكمال الخضوع والخشوع والانكسار لله سبحانه، حتى صار كل خضوع مأخوذا من خضوعه لله تعالى، وبلغ بذلك أعلى مقامات القرب، وبلغ شيعته والباكون عليه والمتأسفون عليه المستشهدون بين يديه والزائرون له والمجاورون لحرمه والساعون إلى حوائج زواره والمشيعون لزواره إليه عليه السلام ولو بنسبة بعيدة إلى أعلى الدرجات...)([39]).
المصداق الثالث: التضحية هي الحياة الحقيقية.
مما يجدر للباحث والمتأمل في سيرة الإمام الحسين عليه السلام نظرته التي أبهرت العقول وحيرت الألباب حيث كان منظاره عليه السلام أن التضحية والموت والشهادة في سبيل الحق تعالى هي التي بها ينال الدرجات العاليات.
وهذه التضحية هي التي ثبتت المبادئ الدينية والإنسانية التي أراد أعداؤه طمسها ومحوها فرأى عليه السلام أن التضحية هي السبيل، والتي بها تعود الحياة الحقيقية للبشرية فاختار طريق الشهادة، طريق التضحية طريق الموت الذي يرى فيه الحياة الحقيقية.
بل أن الأعجب من ذلك أنه عليه السلام لم يكتفِ بأن يضحي بنفسه لأجل هذه المنازل الربانية الإلهية، بل اختار أن يضحي بأغلى ما يملك كل إنسان، وهم أهل بيته وعشيرته.
وقد تمسكوا بأذيال أهداف مرشدهم وملهمهم الإمام الحسين عليه السلام، وساروا بسيره رغم خطورة المنقلب، وحتم النتيجة ولم يدفعهم لذلك إلا إيمان راسخ بأن التضحية في سبيل الله تبارك وتعالى تعني الحياة الحقيقية، مقتدين بقول الله تعالى:
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ([40]).
وهذا ما شهد به الجميع من العلماء والباحثين والمتكلمين.
علماء شهدوا بذلك:
أولاً: السيد كاظم الرشتي قدس سره الشريف يقول:
(فلما اقتضت كينونة الحسين عليه السلام بتوفر شرائط القابلية، ومتمماتها، الفوز بدرجة الشهادة العظمى والحظ الوافر الأعلى وأمات نفسه وأهله في طاعة الله سبحانه، وقابل الله سبحانه بغاية الخضوع والانكسار لله ونهاية الخضوع والتذلل لله سبحانه، بحيث خضع كل خاضع بخضوعه وخشع كل خاشع بخشوعه فظهرت آثار الربوبية والجلال والعظمة فيه (صلى الله عليه وآله)([41]).
ثانياً: الفيلسوف الألماني (ماربين) يقول:
(أتى الحسين في آخر ساعات حياته عملا حير عقول الفلاسفة، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة، وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة عبد الله الرضيع فلما كان الحسين يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا...رفع طفله الصغير على يده أمام القوم تعظيما للمصيبة، وطلب الماء له فلم يجيبوه إلا بالسهم، ويغلب الظن أن غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الأعمال المفجعة لأجل سَبُعِية منافية لقواعد كل دين وشريعة وهذه كانت كافية لافتضاحهم واتهامهم بالسعي بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد...)([42]).
ويقول الفيلسوف (ماربين) في كلمة أخرى له:
(إن الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين كان بإمكانه تجهيز جيش جرار لمقاتلة يزيد لكنه قصد من استشهاده الانفراد والمظلومية لإفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لآل النبي)([43]).
ثالثاً المؤرخ الإنكليزي (برسي سايكس) حيث يقول:
(إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا)([44]).
فهذه الشهادات التي شهد بها العلماء والباحثون والمؤرخون بانتصار الدم على السيف، وانتصار الجراحات على الرماح. وهو عليه السلام قد خلد وجسد الإنسانية بتضحيته عليه السلام، وبين للعالم كيف يكون المظلوم منتصرا؛ لكي يقتدي وينتهج نهجه كل مظلوم،
وحال الإمام الحسين عليه السلام مع ربه تعالى أولى بمن قال فيه الشاعر:
إلهي تركت الخلق طرا في هواكا
وأيتمت العــيــال لـــكـــي أراكــا
فلو قطعتني بــــالــــحـــب أربــا
لمـا مال الفؤاد إلـــى ســـواكــــا
فسلام الله عليه من شهيد أحيا بشهادته الدين القويم وأرشد الناس إلى الصراط المستقيم بعد أن كادت تغيب معالمه فأحيى بتضحيته الدين وشريعة سيد المرسلين وشريعة آباءه الطيبين الطاهرين سلام الله عليهم اجمعين.
(السيرة الذاتية):
الاسم: عبد الجليل عبد الكريم الكنين.
المدينة: المملكة العربية السعودية / الأحساء.
الدراسة:
حوزويا / المرحلة الثانية من المقدمات.
اكاديميا / دبلوم حاسب آلي.
الجوال: 0556014058
([1]) مدينة المعاجز، البحراني: ج1 ص 586.
([2]) مجلة رسالة الحسين وعاشوراء من وجهة نظر المستشرقين،: مقال أ.رائد علي غالب.
([3]) مجلة رسالة الحسين وعاشوراء من وجهة نظر المستشرقين،: مقال أ.رائد علي غالب.
([4]) رؤى حول الأسرار الحسينية، الأوحد والرشتي: ص 81.
([5]) مقرح القلوب ومهيج الدمع المسكوب، آل أبي خمسين: ج 1 ص 1.
([6]) المعجم الوسيط: ج 2 ص 978.
([7]) سورة النبأ الآية رقم 13.
([8]) شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، الأوحد: ج1 ص 150.
([9]) مقدمة تفسير البرهان، أبو الحسن الفتوني: ص 335.
([10]) شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، الأوحد: ج 1 ص 151.
([11]) سورة الأحزاب الآية رقم 46.
([12]) سورة النور الآية رقم 35.
([13]) تفسير البرهان، البحراني: ج7 ص 51.
([14]) تفسير البرهان، البحراني: ج7 ص 55.
([15]) تفسير البرهان، البحراني: ج7 ص 54.
([16]) مفاتيح الجنان، القمي: ص 565.
([17]) مدينة المعاجز، البحراني: ج1 ص 586.
([18]) ملحمة الحسين الحسين، ريمون قسيس: ص 23 و24.
([19]) المعجم الوسيط: ج 2 ص 978.
([20]) شرح الزيارة الجامة الكبيرة، الأوحد: ج1 ص 147.
([21]) مقدمة تفسير البرهان، الفتوني: ص 544.
([22]) شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، الأوحد: ج 1 ص 150.
([23]) تفسير البرهان، البحراني: ج1 ص 158.
([24]) مقدمة تفسير البرهان، الفتوني: ص 545.
([25]) سورة طه الآية رقم 123.
([26])مقدمة تفسير البرهان، الفتوني: ص 545.
([27])مقدمة تفسير البرهان، الفتوني: ص 545.
([28]) مفاتيح الجنان، القمي: 565.
([29]) ملحمة الحسين، ريمون قسيس: ص 25 و27.
([30]) مستدرك الوسائل،: ج10 ص 319.
([31]) أسرار الشهادات ،الدربندي: ج3 ص 234.
([32]) رؤى حول الأسرار الحسينية، الأوحد، الرشتي: ص 81.
([33]) الحسين في الفكر المسيحي، د.أنطون بارا: ص 379.
([34]) علي والحسين في الشعر المسيحي: ص 337.341.
([35]) بداية المعرفة موسوعة كلامية حديثة، العاملي: ص 174.
([36]) صحيفة الأبرار، المامقاني: ج 3 ص 384.
([37]) مفاتيح الجنان، القمي: ص 286.
([38]) جوامع الكلم، الأوحد: ج9 ص 151.
([39]) رؤى حول الأسرار الحسينية، الأوحد، الرشتي: ص 81.
([40]) سورة آل عمران: رقم الآية 169.
([41]) رؤى حول الأسرار الحسينية، الأوحد، الرشتي: ص 58.
([42]) الحسين في الفكر المسيحي، د.أنطون بارا: ص 257.
([43]) الحسين في الفكر المسيحي، د.أنطون بارا: ص95.
([44]) الحسين في الفكر المسيحي، د.أنطون بارا: ص94.